مقال رأي

عندما قال لي الأستاذ “إنتي غدة إلحاح”!

كنت أنتظر برنامجه الشهير، بشغف يشبع عشقي للعمل في بلاط صاحبة الجلالة، طريقة عرضه التشويقي للضيف، اسئلته الجريئة، خوضه في موضوعات شائكة، ايقاع صوته المميز، كل هذا   جعلني  اتخذه مثلا اعلى في حياة صحفية لم تبدأ بعد، لكنها تشكلت معالمها في نفسي وغرست في روحي  عشق الصحافة، على يد معلمها الروحي  مفيد فوزي،  المدرسة الصحفية القائمة بذاتها  في الاسلوب الحواري و الكتابي والتحقيق الاستقصائي.

بدأت دراسة الصحافة تشرين الأول  2004،   وأثناء الدراسة تعرفت على صديقة العمر، والدرب، الصحفية سماح ابراهيم  من تشبهني في الطموحات والاهداف والجنون ايضا، اتفقنا أن نقوم باختيار شخصيات اعلامية وسياسية معروفة،  واجراء حوارات صحفية معها  تشبع طموحاتنا الصحفية التي لم تنضح وقتها بعد، واتفقنا أن يكون أول حوار مع الاستاذ مفيد فوزي، أشهر المحاورين على الساحة،  دون ان تكون لدينا خبرة  كتابة خبر صحفي مكتمل العناصر ؛ لتتوافر به شروط النشر.

بدأنا عملية البحث في أرشيف المحاور الكبير بأرشيف دار الهلال، وهناك أمضينا ساعات طويلة،  دون أن نشعر  بالوقت، مجلدات من الكتب، والأوراق القديمة،  وأرشيف الصحف ، مئات المقالات والتحقيقات الاستقصائية والمؤلفات للاستاذ مفيد فوزي.

مفيد فوزي
مفيد فوزي

قمنا بصياغة الاسئلة بالفطرة الصحفية، فلم نمهل انفسنا انتظار دراسة مادة الحوار الصحفي بالجامعة ؛ حتى يتثنى لنا  صياغة اسئلة تليق بمكانة محاور يتربع على عرش ادارة الحوارات الصحفية، وبدأنا البحث  عن رقم هاتف  الأستاذ .

في دليل التليفونات وجدنا عشرات الاسماء تحمل نفس اسم مفيد فوزي، ما جعل عملية البحث أكثر تعقيدا، أجرينا عشرات الاتصالات بحسب قائمة الأرقام التي حصلنا عليها من دليل الهاتف لكن دون جدوى.

لكن لا أعرف من أين  أتت لنا  فكرة البحث عن تليفون ابنته الكاتبة الصحفية حنان مفيد فوزي؟  حصلت على  الرقم من دليل الهاتف، كنت أدرك تماماً أنها المحاولة الاخيرة، ولربما ستبوء بالفشل، لكن عند الاتصال رد عليا الاستاذ، بصوته المعروف  الذي اعتدت سماعه وهو يحاور المسؤلين والسياسين ببرنامجه الأشهر (حديث المدينة).

كنت اتحدث معه تليفونيا ومشاعر الارتباك تفكك سياق الحديث، وترتيب الكلام .

سألته بسذاجة متشككة :”حضرتك استاذ مفيد فوزي؟”

أجاب :” نعم”

:”استاذ مفيد! أنا طالبة بقسم الصحافة  بالسنة الدراسية الاولى، أتمنى أنا وصديقتي لقاء حضرتك، الأمر بالنسبة لنا حلم اتمنى مترفضش ، حضرتك مثل اعلى لينا في الصحافة “.

:”معنديش مانع، غدا الساعة الخامسة نتفق على موعد”.

:”أستاذ مفيد! أنا عانيت علشان اوصل لحضرتك أتمنى إنك تكون متاح في التوقيت المحدد؟”

أجاب  متسائلا : ” وانا مش هكون متاح ليه يا بنتي “

في اليوم التالي وعند الاتصال في الوقت المحدد لم يرد الأستاذ ؛ حتى بدأ الشك ينتابني وضربات قلبي تزداد خفقاناً، جددت الاتصال عدة مرات، وفي المرة الثالثة  أجاب الأستاذ  على الهاتف، مازحته قائلة:”   توقعت ان حضرتك مش هترد، اكيد مشغول بس الأكيد هنحاور حضرتك”.

ضحك غير معلقا واتفقنا على  موعد لأجراء الحوار في منزله بالمهندسين وقت العطلة الجامعية.

انطلقت ومعي رفيقة الدرب  لمنزل الأستاذ، واصطحبنا زميل لنا بالجامعة تولى عملية التصوير، طرقنا الباب خرج علينا الاستاذ مرحبا بنا، وبمجرد دخول منزله الذي يحوي صورا عائلية، ومقتنيات تاريخية، وبغبغاء يجلس في القفص  مترقبا في صمت سير الحديث،  طرح سؤالا :” مين فيكم حكمت حنا”؟

نظرت لي صديقتي سماح، والدهشة تعلو  وجهها وفي عينيها سؤال :”ماذا فعلتي؟”

أجبته مسرعة والفضول يتملكني :” انا ,  ليه ؟”

فأجابني بنبرة صوته القوية :” انتي غدة إلحاح .”

واخذ يستعرض طريقتي في الحديث معه تليفونيا، وكيف كان اصراري على تحديد موعد سريعا، وفي يوم العطلة الاسبوعية من الجامعة.

وقال ضاحكا :”مهم ان يكون الصحفي لحوح،  هذه بداية جيدة”.

ربما كان وقع العبارة على نفسي في بادئ الأمر ليس بالأمر السهل، شعرت انه لا سيتحسن ذلك، وبالتالي سيؤثر على سير الحوار،  لكنه عندما اثنى على ذلك، كانت كشهادة افتخر بها من محاور بارع يتقن فن الحوار وادواته.

بدأنا طرح الأسئلة على الأستاذ بداية من طفولته مرورا بدراسته، ومشواره الصحفي، والإعلامي في حوار امتد قرابة الساعة ونصف الساعة ساردا ما في  جعبته من  أسرار،  وحكايات دون قيود، وبعد انتهاء الحوار التقطنا العديد من الصور، وبدأ يشيد الأستاذ بالمحاولة الصحفية التي قمنا بها رغم افتقارنا للخبرة الصحفية وقتها، ولم يبخل علينا  بنصائح وعبارات مشجعة كجيل  صحفي جديد لم يبدأ مشواره بعد.

نشر الحوار في خريف 2005 بإحدى الصحف الاسبوعية، كانت بداية أول عمل صحفي يرى النور، بداية تحقيق حلم لقاء  محاور كبير، شكل دورا محوريا في توجيه اهدافي للعمل الصحفي.

“استفزاز نبيل من اجل معلومة” عبارة ظل يرددها الاستاذ مفيد فوزي في اغلب لقائاته الصحفية  حتى صارت شعار لي خلال عملي في بلاط صاحبة الجلالة.

لقد كان مدرسةً صحفية  قائمةً بذاتها فى الكتابة وفن الحوار والتحقيق التليفزيونى، كان كاتبًا و محاورًا،  شخصيته العبقرية خلقت له  أسلوبًا صحفياً  مميزاً، تميز بالجرأة فى الطرح،  والدقة فى اختيار الكلمات، والخوض فى موضوعات جديدة وجريئة،

رحل  الاستاذ صباح الأحد الماضي  4 ديسمبر، رحل الصحفي المشاكس،  رحل صاحب  اشهر برنامج صحفي تلفزيوني ” حديث المدينة”  رحل تاركا تراث صحفي  هائل من المؤلفات والمقالات والحوارات الصحفية التي تصبغت بأسلوبه المتميز  وبمذاق شخصيته الجريئة، رحل الأستاذ مفيد فوزي.

حكمت حنّا

كتبها للنمسا نت: حكمت حنا، صحفيّة ومديرة تحرير موقع ميجراتسيون إم فوكوس النمساوي.